تذكرته رغم
عدم نسيانها له بعد أكثر من ثلاث وعشرين سنة مرت وكأنها البارحة تجري السنون جري
المجانين حين يهتف صوت الصرع لخلايا الدماغ بالانفلات فلا يدرك المجنون كم
قطع من مسافة غير مبالي أحافي الأقدام وعلى الأشواك يضعها أم كان شيء ما يحول بينه
وبين الأذى ، بكت عيناها دموع مشتاق محب وربما دموع ندم وإشفاق ليست عليه ولكن على
نفسها التائهة..
صاحب
العيون الزرقاء، والبشرة النظرة البيضاء،
والقلب الذي يملك حب كبيرا وطيبة تسع كل الكون ،لا يعرف السواد ولا الحسد إلى قلبه
سبيلا ، مضى في طريقه على عجالة لم ينظر
إلى الماضي ولا إلى معوقات حاولت عرقلة مسيرته ولم يحلم بمستقبله بل عاش حاضره بكل
ما فيه وساعته بثوانيها ، كان يعطي لكل شيء حقه ، .. نومه أكله ..شربه .. أناقته..
حركاته.. زياراته للعائلة ..رحلاته ..كما لم يبخل بابتساماته. لم يحبس ضحكاته التي كانت
تميل للقهقهة، ولا يحب الحزن لشيء مضى واكل عليه الدهر وشرب، أو لشيء هو في علم
الغيب قد يحدث وقد لا يحدث.. مسامح ذو صدر رحب.
كلما عاد
من غربته حن لدفئ العائلة الكبيرة يزورها ويهاديها بكل أنواع الهدايا غير طامع
في ملذات الحياة فقط يرجى ودهم والدعاء .
تمت زيارته
الأولى لأسرتها، وكانت يومها صبية بكل معاني وصفات الأنوثة الجميلة بالرقة والجمال
والأخلاق تميل للدين عن الدنيا كثيرا ، لما رآها لأول مرة أعجبته وأخفى إعجابه
لكنه لم تكن له القدرة على إخفاء نظرات الإعجاب عنها ، وفطنت هي لذاك الإعجاب ولم تبالي به ، كان يكبرها بثلاثة وعشرين سنة ربما لهذا
السبب اخفي إعجابه وهي لم تبالي به والقدر يمضي بحكمه وحكمته .
وتلت زياراته المرة تلو الأخرى وفي كل مرة بمجرد
ما يدخل البيت يسأل عنها أين هي؟ وكيف حالها؟ ثم يطلب رؤيتها ويصّر على ذلك ، في
حين كانت تتعمد التخفي عنه والابتعاد عن مرآه وما كان يخرجها من خلوتها إلا إصراره
، فتأتي شقيقتها الكبرى لتضغط على أعصابها وتذكرها بصلة الرحم وما عليها من واجبات
نحوهم وإكرام الضيف ، ذاك الوتر الحساس الذي تفضل شقيقتها الضرب عليه بكل قوة حتى
الألم فتجبرها على السلام عليه والتحية ، تتعمد عدم النظر إلى عينيه بينما هو ينظر
إليها بشوق وحب كبير وما إن تسلم وترحب به فتسمع منه كلام كثير لا فائدة منه إلا
الثرثرة في رأيها ، تنصرف تاركة قلبا مشتاقا يتأملها من بعيد دون التفاتة منها ولا
إشفاق .
كان يسافر
إلى عمله في بلاد الغربة لا يعود إلا مرة واحدة في كل عام وكلما عاد لفترة قصيرة
لا تتجاوز الشهر يهرع لزيارة عائلتها والاطمئنان عليها فيجدها قد أصبحت أكثر جمالا
وأبهى قواما فيزداد إعجابه بها وحبه لها ويتمنى أن تحدثه ولو قليلا .
ليست متكبرة
ولم تحتقره يوما ، لكنها تعيش في عالم آخر بين العلم والجهل عالم المطالعة والتفقه
وما كان يغريها إلا نقاشا جادً في أمور العلم والدين ، لم يرى نور العقل فيها ،لكنه رأى جمالا خارجيا يفنى ويتغير تاركا منها طريقا مضيئا مختارً قوامًا لا يسمن ولا يغني من جوع .
فتجاهلت عناده المظلم لعله يفطن لجانب مضيء
تريده أن يراه من خلال عدم اكتراثها لإعجابه الذي أصبح ظاهرا للبعض.
ومرت سنوات
عدة قرر فيها الزواج واختار أن تكون هي زوجته فسأل أحد قريباته أن تعرف رأيها كي يتقدم باطمئنان ، لكن تلك
المرأة قدمت له نصيحة قد تكون خبيثة وقد
يكون القدر أختار ذاك الجواب على لسانها .. قائلة : هي طريقها لا يلتقي بدنياك ولن
تسرك ولن تسعدها ،وبسذاجة صدقها ووافقها لكنه لم يبتعد وبقي على الود والزيارة إلى
أن علمت يوما أن عرسه بعد أيام ربما اخفت إعجابها به بين طيات نفسها ولكنها لم تقاوم انزعاجها
بزواجه الذي فاجأها حيث كانت تعتقد فيه صبرا وإصرار وفوق هذا كله حبا مستور لكنه
صادق .. فأين الصدق في هذا الحب الذي تجاهلها
وغيرها بأخرى ؟!! كان ذاك سؤالها بين نفس وقلب يكاد يكون مجروحا، تخفي حبها
وتظهر اللامبالاة بيه ، ذهبت لعرسه وقررت أن ترى عروسه دون اهتمام كبير بشكلها،
جلست مع
المدعوين لكنها لم تتحمل البقاء طويلا فخرجت إلى غرفة أخرى مجاورة لغرفة المدعوين
فتجالسها بنات أخيه وتضاحكنها لتجده واقف أمامها وهو يرحب بحضورها بكل حب واحترام،
فبادلته التحية مستشعرة كلام كثير بين شفتين يريد أن يخبرها شيئا.. لكن بعض
المدعوين افسدوا تلك اللحظات المهمة في حياتها فخرج مسرعا يضع يده في جيبه واليد الأخرى
على رأسه كأنه خجل من أمر ما أو انزعج من أمر أخر.
بعد فترة
تداولت فيها الأيام بأسرار خفية لا تدركها القلوب ولا الأبصار البشرية فيعدّ القدر
ميعاد جديد يجمعهما في وقت واحد دون حديث بينهما ،كان يومها شقيقه مريض وهي قامت
بزيارته لمكانته الكبيرة بين الأسرة والعائلة الكبيرة ، دخل مرافقا زوجته مبتسما
كعادته وبمجرد ما ألقى السلام فترد عليه بسرعة ثم تتسلل من المكان لكنه انتبه ولحق بها ، مرة أخرى تقف بنات
الأخ عائقا لحديثه معها فتهرب منه الكلمات ونظراته إليها تفضح حبا دفينا يكاد يعود
للحياة من جديد بعد أن أصبح أبا لولد يشبهه في كل شيء إلا زرقة عينيه وربما أخذ من
أمه ما لم يأخذ من أبيه ، تأثرت لتلك النظرات ولأول مرة تسأل نفسها بسؤال لا يفهم
: لِمَ ؟ ...
استسلمت
لقدر حكم لا عودة للوراء ولا طمع في ما
مضى أن يعود فالحظ لا يبتسم مرات وإنما هي مرة قد تصنع من خلالها المعجزات واختيار
القدر فوق كل المختارات
جاء
لزيارتهم وتلك كانت أخر النظرات جلست تحادثه وهو يضحك ويخبرها إني أكل طعام عشائي
في باريس وافطر في وطني بين أهلي وكل يوم فسألته ولما تفعل هذا ليرد عليها أحاول
تجهيز شهادة إقامة دائمة لابني وزوجتي في باريس ليكونا قريبين مني كانت تريد أن
تسأله : إذن لن نراك بعدها أبدا لكنه رد الجواب قبل السؤال: ربما تقولين إن زوجتي
أخذتني منكم ؟ لا .. لن تأخذني ولن تنسيني
في أهلي ومن أحببت ولن أكون رجلا إن فعلت ذلك و بابتسامة تؤكد وده المتواصل ،
يحييها ويحيي والدتها ويمضي .
في ليلة
وكعادتها مع الرؤى والأحلام ترى عرسا كبيرا في بيته ووالدته ترقص بجنون والجميع
ينتظر العروس إلى أن وصلت وآلات تصوير الأفلام تعمي الأبصار بأضوائها وهي كأنها
مريضة تجلس في سيارة صغيرة تشاهد العرس .. مهرجان لدول العالم منتظرة العروس
التي لم تستطيع رؤيتها .
استيقظت من
نومها تشعر بآلام في كل جسمها ولم تستطع القيام من سريرها دون أن تقص رؤيا ها على
أحد وفضلت كتمها في نفسها تتساءل من المعني بهذه الرؤيا المفجعة؟ ..
بعد صلاة
الظهر عاد والدها للبيت ومعه خبر مفجع...
سافر حمادة
مع زوجته في ذاك اليوم لزيارة أهلها
والبقاء عدة أيام مع والديها قبل السفر الطويل وعند عودته على الطريق السريع اصطدم
بشاحنة لتؤدي بحياته في حينها
لم تقوى
على الوقوف حين علمت بالأمر وحتى لم تزور والدته للتعزية لم تكن لديها القدرة على
ذلك ربما خوفا أن تكشف سرا كتمته حتى عن مشاعرها أن تشعر به.. حبا تجاهلته أو
استهانت به وتخافه ، بينما القدر خط
بقلمه حروفا جرت سريعة تروي خطوات حياتها خطوة خطوة لا رجعة فيها ، بكته وليت للدموع القدرة على إعادته للحياة،
تجلس على سريرها وكل أسرتها في بيت حمادة تساعد، وتواسي عن المصاب، وتخفف عن الآلام .. وجهاز التلفاز مكتوم الصوت تستأنس بصوره ،
تنظر أحيانا الى مكانه الذي جلس فيه أخر مرة وتتخيله يبتسم وتزداد دموعها تحرق
مقلتيها وشيء ما في صدرها لم تفهمه يكاد قلبها يصرخ فيها : لماذا تبكي الآن أهو ندم ؟ أم آلم ؟ أو وجع جمع بين الحب
والفراق ، رحل حمادة ولن يعود... أفيقي
فقد أبعدك صمت السبات عنه ولفكِ بكفن الوداع ..أفيقي لم يعد هناك حمادة تستهوين عواطفه
وتخشين نظراته وتبتعدين مستنكرة حبه ..
مرت صور في تلك اللحظات على شاشة التلفاز في نشرة الأخبار لقطات من حادث مرعب
أثناء مهمة لطاقم صحافي صادفه ذاك الحادث فنشره ببث مسجل وكأنها كانت قد شاهدت
الحادث أمام عينيها أسرعت لترفع الصوت وتسمع أن تلك السيارة لحمادة وكان شكل
السيارة مروع لا يمكن لأحد أن ينجو منه إلا برحمة الله.
وانتهت
خطوة من خطواتها عاشتها بعيدة عن حب حمادة وتألمت لرحيله لم تحسن استقبال قلب محب كما انه لم يحسن إيصال
ذاك الحب إلى قلبها إلى أن دفن معه .